نبذة عن الكتاب :
مع آذان الفجر؛ من كل يوم من أيام خرائف البلاد الأسيرّة، تستيقظ البلدة القديمّة منهكة، وتبدأ حركاتها الأولى؛ على وقع الرّذاذ الخفيف، العالق في فضاءاتها الضبابية الغامضة، التي تُنذر بأحداثٍ وشيكة، لا تحدث مطلقاً! وفيما يتخلل هذا الرّذاذ، خيوط الشمس الأولى يتبدد، قبل أن يُلامس طرقات البلدة المليئة بالتعرجات والحُفر، وأكوام الزبالة.
الأهالي؛ الذين لا يجوبون طرقات البلدة؛ في ساعات الليل، خشية "الجنكويز" يكتفون بإطلاق اشباحهم، فيتراءى كل السكان الموتى، عبر تاريخ البلدة التليد.. الوثنيون، الكهنة، البرامكة أصحاب السر الأعظم؛ للمقدس زرادشت وبوذا وماني ومزدك.. الأحبار.. الرّهبان والفقهاء.. المخنثين والسحاقيات..
طيوفهم جميعا تتسلل خلسةً، من المعابد العتيقة والأديرّة، التي ترفرف الرّايات الحمراء من الحانات؛ والخمارّات الملحقة بها، يتبعون خُطى بعضهم؛ وهي تمضي بحذّر، وتنزلق داخل الزُقاقات الضيقة، تبتلعها عتمّة الدروب، المفضية لدار عاشقٍ مهجور، أو عشيقة لا تكف نداءاتها اللحوحة، تغذي بلهفتها نيرّان هذه الدور، المضاءة بمصابيح ومشاعل الزّيت الشحيحة.
فتتبدى هذه الزُقاقات والدروب، عن طيوف؛ من مروا بها ذات يوم، من سادة مسكونين بطلب المتعة، وقيان و جواري وإماء، و سبايا وعبيد مخصيين غُلبوا على أمرهم، في غزوات "النبشيين" المجيدة!
تتفتق الزُقاقات والدور؛ ذات الضوء الشحيح، عن خيالاتهم جميعاً.. وهم يمشون بخُطى متثاقلة، يتوحدون في شعر ونثر الأغربة والزنادقة، التي ترسم القبلات؛ على شفاه الفتيات الشريفات العفيفات الحرائر، اللواتي منذها ينتظرن عشاقاً فوارس، يترجلون على صهاوى جيادهم الجُرد الأدهميّة، وهي تصهل في رحم قصيدة ضالة في هذه الدروب الضيقة، المسكونة بالمجون والعتة وإرث الزنادقة المخضرمين!
الذين لطالما امتشقوا مشاعر كل الكائنات اللّيلية، التي تمتلئ بها البلدة القديمة وتفيض، منذ اللحظات الأولى لهطول المطر؛ في هضاب أكسوم البعيدة، عند العنق من رّحم البحر الملون الرّهيب!
يسبحون في شهوّاتهم، متلفعين زبد البحر.. متوسدين مويجاته الهائمة، التي تهدهدهم لآخر ذروّة، ثم تسحبهم في مدها وجزرها؛ إلى قاع النشوّة الحرون!
وعندما تتبدد العتمّة، وتبوح الشمس بمكنوناتها، يخرج أهالي البلدة من عراك الأخيلة والطيوف الليلية، متوجهين إلى سوق الشعراء، مقار العسس الجنكويزي، دار الغلاط، سوق الوراقين؛ القصر الأميري، السهل الزراعي؛ الذي يتكئ على خاصرّة البلدة، التي تنمو في امتداداتها أشجار النخيل والكروم، وهم لا يزالون يتثاءبون!
نبذة عن المؤلف :