غارقة في محطة انتظار، تنتظر قطار قادم برياضٍ بارد يهب من جهةٍ لا يعرفُها أحد يُلامس روحها ويقول شيئاً لا يُسمع. تقاومه بعينين مُنكسرتين كبقايا لوحة نسيها رسامُ بائس ترك خطوطه فيها ورحل.
يصل القطار لتستقل مقعداً بلحظةٍ محمولة على صمتٍ غامض تشبه المسافة بين الشهيق والزفير.. بين بداية لا تُراد، ونهايةً لا تُعلم. تسرق من أول شُرفةً للنهار خيط املٍ تضعهُ في حجرها كعزاءٍ صغير.
تضم جسدها الهالك بمعطفٍ بُنيٍ أنيق، بعد أن رصّت بين حبات ريشة كثيراً من التيه والوجع، وشيئاً لم تُسمِه يُشبه العودة أكثر مما يُشبه الرحيل.
يتوقف القطار مُعلناً الوصول، لِتحمل حقيبةً أعدتها مُنذ شهر، لم تكن من قماش وجلد بل وعاء لقدرٍ يسكُنها وضعت فيه قوةً من نور وقسماً بالنجاة.
وصلت إلى غُرفتها إلى موعدٍ تتمنى بأنهُ الأخير، تأملت الأشياء حولها وكأنها لم تعُد ترى الأشياء كما هي، كأنها تدخل عالماً موازياً ينشف فيه الضوء من الوجوه وتبقى به الغصات التي لا ترحم.
يستوقفها شيئاً ما يقف خلف النافذة، لترى كيان لا ظل لهُ، يشبهها دون أن يكونها، ويختلف عنها دون أن يكون أخر نُسخةً روحية منها تخلت عنها واستقرت هناك حيث وجدت مناخاً يشبهها. فعندما يُكسر القلب كثيراً يخرج نصفه ليراقبنا من الخارج.. وهناك خلف النافذة كان نصفها ينتظر نصفها الآخر، فكان هذا أخر ما تراه قبل أن تغطّ في سباتٍ عميق.
الساعة تُشير إلى الثامنة صباحاً، زمنٌ مُكرر للحظة تتمدد فتغمر كل شيء، ترتدي اللباس ذاته للمرة الخامسة وكأنها تُعيد تجربةً قديمة كي تصل بها لمثولها الأخير. يقترب الطبيب بصوتٍ لا يأتي من فمِه بل كأنه مكتوبٌ على صفحةٍ أصدرها مُنذ زمن:(كُل شيء في الأسفل بانتظارك سيُقتص جُزءاً آخراً من أحشائك).
رفعت عينها لتسقُط جوهرةً بلون دمع تتدلى كتسليمٍ ناعم من مقامٍ للصبر والرضا، وبصوتٍ ثابت كحجر: (الأشياء التي نفقدها لا ترحل كُلها بعضُها ينتظر في مكانٍ آخر نشعُره ، فأنا مؤمنة بأنه كما تُهدم المساكن والأحياء أحشائُنا أيضاً لها نصيبٌ من العدم، ليس لتموت بل لتُعلق في سماءٍ أُخرى.. جعلها الله ذخيرتي يوم ألقاه يومُ يُقال فيه: ((إني جزيتهم بما صبروا)).
تمددت فوق السرير الذي تعرف قسوتهُ جيداً كما تعرف حدود قلبها، تُغلف رؤيتها بمفرشٍ أبيض يحمل بذاكرتها رائحة الموت والكفن، خلف جفونها تمر صور بأجنحة للنسيان الذي أصبحت تخافه مُنذ أن أصبحت تنسى مفاتيح يومها وتنسى ملامح وجه مر أمامها قبل دقائق ،حتى الأسماء التي تُحبُها صارت تتداخل في رأسها، كما لو أن المرض يعجن الأشخاص ويُبدل مواقعهم ويتركهم مُعلقين بِلا يقين ،كانت تخاف أن يسرقها النسيان من أيام من تحب ويتركها كظل يمشي بِلا ذاكره بِلا تاريخ وبِلا أحد ،فتدعو يا رب احفظني من الضياع وأكتب أسمائهم في داخلي قبل أن يأكل المرض كُل ما لدي قبل أن يُضيع قلبي نفسه.
في الممر، لم تكُن المخاوف تتطاير.. بل تُصلي، كُل سؤال كان مسبحة، وكل خوفٌ كان تسليماً.
حين بدأ صوت الطبيب بالذوبان مع المُخدر، رأت نفسها بنهرٍ بِلا ضفتين؛ يقف عندهُ وجهان أحدهُما يمدُ طوق نجاة، والأخر يلوح بظلٍ طويل لا يعرف الرحمة.. وبينهما هي كأنها توازن بين موت يتربص بالحافة، ونجاةً تختبئ خلف قسم. يتسرب بعدها بعروقها شيئاً يشبّه الطمأنينة.. يشبّه يداً لأُم غيّبها الموت تُلامسها ثُم ترحل. تُسلم بعدها أمرها ووعيها لله.. ثُم يبدأ القدر بانتزاع ما قُدِّر لهُ أن يُنزع، غيَّبها الصمت في أروقة المستشفى، كانت اللحظات تتمدد على حافة القلق مثل ورقةٍ خفيفة فوق ريحٍ لا تُمهِل. وبينما يتصاعد الخوف في صدورهم كدُعاءٍ مُجهد يُفتح الباب أخيراً.. يخرج الطبيب بصوتٍ مُطمئن، كأنه يُسقِط عن الهواء ثقلاً كان يختنق به ويقول: "كل شيء على ما يرام".
يقتربون منها يلتفون حول السرير الذي صار قلب دوامة الخوف الوحيد، كأن أرواحهم تستند إلى حافته. في تلك اللحظة تُزيح جفونها ببطء.. وتفتح عيناها … لا بقوة كامله، بل بوميض خافت يشبه آخر شرارة تشبثت بالحياة لتقول: إنها مازالت هنا، لتنهض بعدها بصورةٍ لنبضٍ جديد ووفاءً لقسماً صادقاً بالنجاة.
آمال - منذ ساعتين